أذهب للجامعة في يوم ما، لأجد أمامي "خيمتان"، تتوسطان الحرم الجامعي، أمام قصر الزعفران، مركز رئاسة الجامعة ومقر رئيس جامعة عين شمس، فـالأولي خيمة صغيرة، ولكن بارزة، معنونة بـ"إستراحة"، ويوجد بداخلها أربعة أفراد، رجلان، وسيدتان يظهر على ملامحهم الشخصية الأرستقراطية، "لو صح التعبير"، وما سمعت عنهم، أنهم الطبقة الغنية من الشعب، ذوي الملابس الفاخرة "الشيك"، والسيارات باهظة الثمن، والوجوه الجميلة المشرقة، والعينان التي تغطيهم النظارات "الريبان" والشعر الأبيض، وأما بالنسبة للسيدتان الجالستان فلا تظهر أعمارهن الحقيقة، لجمالهن، وذوقهن في إختيار ملابسهن، التي تبدو ملابس الفتيات الصغيرة.
القدم ع القدم،
والإبتسامة الرقيقة، وكل رجل بصحبة سيده، دخلت الخيمة الأولي لأستفسر عن بعض
الأشياء، وهنا إعتدل الرجلان في مجلسهما، ولكن السيدتان بقيا على نفس الوضعية،
التي لم تنل رضائي، وأغضبتني، والذي دفعني لأوجه كلامي إليهن، في إستفساري، ولكن
قبل أن أبدأ، إنهالت علي الأسئلة، أين تعمل؟، ماذا تريد بإستفساراتك؟، تكمل الحديث
ولتجد سيدة تنزع النظارة من عينيها، لتظهر أمامي عين المرأة العجوز، التي تختفي
خلف جمال المظهر، وخلف النظارة السوداء، فـالعين كاشفة لصاحبها. مع وضوح بعض نظرات
التهكم والسخرية، لتزداد نظراتي حِدة تجاهها.
وأما عن الخيمة
الثانية، فـ هي الخيمة الأكبر، والأهم، والتي يقصدها أغلب العاملين بالجامعة،
والتي يحرسها الأمن الجامعي، ويشرف عليها بعض الموظفين من الإدارة العامة للجامعة.
خيمة مليئة بالملابس القديمة المستعملة، ملابس تصلح للإستعمال الأدمي، لمختلف
الأعمار، وكتب على الخيمة "معرض خيري"، فتسمع كلمات بسيطة، من أشخاص
بسطاء، "الجامعة عاملالنا معرض خيري يا حلاوة يا ولاد"، "أتصلي بأم
عبير، وأم محمد يجوا يشوفوا حاجه ليهم". تلتفت بعد سماعك لهذه الكلمات، لتجد سيدتان،
كبيرتان سننا، يظهرعليهن الوهن، والضعف، والفقر الصحي، والمادي، بساطة الأسلوب.لا
يدرون من أين جاءت، ولا يعرفون ما يوجد في الخيمة الثانية، والأحسن أنهم لم يروا
ما بداخلها.
سيارة تصل، محملة
بكاميرا لقناة شهيرة، وبها معدات تصوير، ورجلان، ومراسلة، لتراسل وتحاور الأشخاص
الموجودين داخل خيمة الإستراحة، الذين هموا بالوقوف فور علمهم بأنها قناة شهيرة،
لتنتهي منهم، وتتفقد الخيمة الكبيرة، ووتلتقط صور لما بداخلها، ملابس قديمة
يعتبرها البعض "روبابيكيا"، وأفراد لا أستطيع مناداتهم إلا بالبسطاء،
الملابس البسيطة، والوجه الذي يظهر عليه أسى الدهر، والوهن والضعف، والعين القوية،
التي تظهر الطيبة، ومنها العين الخجولة، ومنهم ذا البسمة المرسومة، دليل الرضا
والقنوع.
ما لفت نظري، وما
أغضبني، ليس الخيمة الصغيرة، البارزة، وليس مجلس السيدتان، وليس إسلوبهما المتعالي
في مخاطبتي، ولكن ما أغضبني حقًا هو البحث عن الشهرة، وليس عمل الخير كما إدعوا
أمام كاميرا التليفزيون. فـ هم يقولون أنهم جاءوا لفعل الخير، ومساعدة العاملين
البسطاء، ولكن ما رأيته هو عكس ذلك.
أنهيت عملي، ووقفت
أشاهد المشهد الجاري أمام عيني، مشهد يثير مشاعر الحزن والأسى، وهو رؤية العمال البسطاء
لسيارات الرجلان والسيدتان، فـ العمال واقفون بعيدًا، ينظرون إليها وكأنهم لم يروا
سيارات كـهذه من قبل، كلًا منهم يتمنى لو يمتلك مثل هذه السيارة، والتي بثمنها
تستطيع حل مشاكل أكثر من أسرة بسيطة، فكم من الأسى حمله المشهد، حزن شديد، والذي
جعلني أتسائل، ما الذي يجعل الطبقات الغنية تزداد غنى، والطبقات الفقيرة تزداد
فقرًا ومرض ؟!، ولم أكمل مخاطبة نفسي حتى أتت سيدة بسيطة وقالت لي: "أنتم
جايبين التليفزيون يصورنا وإحنا بنشحت !!"، يا لها من كلمات نزلت علي
كالصاعقة، ماذا يدور في عقل هذه السيدة العجوز؟!، علامات الذهول على وجهي، وأصبح
وجهي يشبه علامة التعجب (!)، تعبيرات وجه السيدة وكلامها، حقيقي ويحمل الجدية، ففي
اللحظة التي قالت لي هذه السيدة، هذه الكلمات، كان الرجلان يقولان أمام الكاميرا،
أنهم ذوي خير، وأنهم يتبرعون، وما إلى ذلك، وما تحمله كلماتهم من دعاية رخيصة
للمؤسسة التي يتبعون لها.
أنت ترى المشهد
الدائر حولك، ولا تستطيع التكلم ولو بكلمة واحدة تعبر بها عما بداخلك، ولكن هل
ستظل صامتًا إلى الأبد ؟!، وهنا قررت المواجهه بعدد من الأسئلة التي لم أحصل على
إجابات بعضها وهي:
ما هي أهدافكم من إقامة معرض خيري كـهذا؟!، ما الذي يعود على المؤسسة التي تتبعون
إليها؟!، ولماذا تعلنون عن المؤسسة التي تتبعون إليها وسط هذا العمل الخيري كما
تقولون؟!. وهل سمعتهم عن موضوع عدم الجهر بالحسنة؟!، الحسنة في السر.. ماذا تعرف عنها ؟!، هل
علمتم أن لديكم مسئولية إجتماعية كبيرة، بعيدًا عما تفعلون؟!
للأسف، أصبح العمل
الخيري، في زمننا هذا، تجارة ربحية، لبعض المؤسسات التي تدرس كل خطوة، وتعى تماما
أنها عند صرف مبلغ صغير من المال، سيعود إليها أكثر من هذا وأضعافه. وأن الأساليب
الملتوية للبعد عن الضرائب كثيرة، ولا يصعب الإحتيال عليها.
وهنا السؤال يطرح
نفسه: لماذا تزداد الطبقات الغنية غنى؟!، فيما تزداد الطبقات البسيطة في لحس
التراب؟!.
2/3/2015
طارق عصام